الشخصيات السردية في رواية سيدات القمر للأديبة العمانية

جوخة الحارثي مقاربة سيميائية

 

 

أ. د. سعيد العموري

أستاذ مشارك بجامعة تيبازة، الجزائر

البريد الإلكتروني: said_amo@yahoo.com

معرف (أوركيد): 0000-0002-5809-7023 

بحث منشور بمجلة (ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها) المجلد الأول- العدد الثاني – ديسمبر 2020

اضغط هنا لنسخة البحث PDF

الملخص:

تعد الكتابة النسوية العربية والعمانية بصفة خاصة نموذجا لغنى السرد الروائي في العقود الاخيرة، بما اكتسبته رائداتها من قدرة على تشكيل فن روائي يقدم رؤى فكرية بفنية عالية تجعل من عناصر السرد تذوب في قالب فني يمتلك إمكانات التفاعل التلقياتي ويجعل من السرد النسوي العماني في مرتبة متقدمة من السرد العربي.

تلك كانت صورة مهمة لتقديم قراءتنا لشخصيات سيدات القمر للروائية العمانية جوخة الحارثي، نقدمها مقاربة سيميائية للشخصيات السردية، نحاول من خلالها الوصول إلى معرفة تلك الرؤية التي تسيطر على السرد، وهي رؤية المرأة للرجل من خلال تقمص صوته الروائي السارد وتمثل حالاته الفكرية والنفسية، منطلقين من اعتبار الشخصية الروائية علامة سيميائية متحولة في السرد تتحدد في حقيقتها بمجموعة علاقات تشكيلية مع عناصر علامية في لغة السرد. ومن أجل ذلك حاولنا تطبيق أدوات القراءة السيميائية كالنموذج العاملي، وتتبع العلاقات السطحية على مستوى اللغة السردية والتعمّق في قراءة الشخصيات.

الكلمات المفتاحية:

سيدات القمر، السيميائية، الشخصيات، الرواية النسوية.

تقديم:

تعد الكتابة عن الرواية العمانية من الصعوبة بمكان بالنظر لتطورها المتسارع وانفتاحها على عوالم الكتابة السردية المعاصرة، فكانت بحق أيقونة جديدة في سماء الرواية العربية، وفي رواية (سيدات القمر) للروائية العمانية جوخة الحارثي الصادرة عن دار الآداب العام 2010. يستوقفنا سؤال كبير عن كثافة المواضيع التي تطرقها، والتي صاغتها بحيث تتمحور حول رؤى شخصية ساردة هي شخصية عبد الله، ومن خلال تلك الخصية طرحنا أسئلة منها:

    إلى أي مدى استطاعت الكاتبة توظيف الدال الاسم بحيث يتعالق دلاليا مع الموضوعات ويحرّك الأحداث؟

    هل يمكن قراءة الشخصية الروائية العمانية قراءة سيميائية تحيط بالشخصية في كونها الدلالي؟

للإجابة عن الإشكالية نقدم مقاربة سيميائية للشخصية المحورية في (سيدات القمر) شخصية عبد الله، وقد عبرنا إليها بتتبع عناصر نظرية عن تعريف الشخصية في السرد وفي الدرس السيميائي.

استعنا في مقاربتنا ببعض المصادر والمراجع السيميائية التي أفادتنا في مقاربة الشخصية. ونحن ندرك أنّ المقام لا يتسع للاستفاضة في مقاربة النص سيميائيا ولكنه إضاءة تقريبية للرواية العمانية المزدهرة وللروائية جوخة الحارثي في تجربتها الرائدة.

إنّ الحديث عن الأنثى الكاتبة أو الأنثى الساردة أو الأنثى الشخصية يتصل اتصالا وثيقا بتلك العلاقات الغامضة بين الأنثى والزمن الأنثى و المكان أو الأنثى واللغة بصفة عامة، إنها عصيّة على الفهم أو التحديد الموضعي، لكنها تخترق نظام اللغة ونظام الكتابة السردية لتعيش بين سراديب عناصر السرد، إنها تتعامل مع عناصر السرد بطريقة خاصة، تتعامل مع الأدب بطريقتها التي لا يمكن إدراك كنهها إدراكا تاما حقيقيا إلا بالاستناد على ما تقدمه المرأة من إشارات نهتدي بها لمحاولات البائسة للفهم وللتقريب، وكأنّ اللغة عند المرأة تعدت فكرة الحديث عن قشور النقد في ثقافة الرجل وصراع المرأة بحثا عن وجودها في مجتمعاتنا خاصة، إننا أمام عالم جديد تكون فيه الهوية الأدبية‹ للمرأة شكلا من أشكال الحضور والتواجد الإنساني الحقيقي الذي يعزز كينونة المرأة ويغرس أظافره في لحمة هذا الوجود لتحقيق لذة الألم والتعريف بهذا الإنسان› (الشيدي، 2010).

إنّ علاقة المرأة بالأشياء والتي تعكسها في كتابتها لا يمكن بحال أن تفهم إلا بانتهاج عصي الطرق العلمية والأدبية في تحليل اللغة السردية والأمر هنا للكتابة النسوية بصفة عامة؛ وذلك لاتصال المرأة الإنسانة بالأنثى الكاتبة في اللغة التي اتسمت بسمة الأنثى في صيغتها اللغوية، بيد أننا ندرك أن أيا من عناصر السرد سواء المكان أو الزمان أو الحوار أو باقي العناصر الأخرى في الكتابة النسوية، إنّما يمثّل عالم المرأة الحقيقي إته عالم الهاجس والرؤية الفنية، ولا نقصد هنا بالحقيقة إشارة إلى الواقع أو الرواية الواقعية، ولكننا نتحدث عن الهاجس، ومن أجل ذلك طرح النقد النسوي عديد الأسئلة عن ميزات الكتابة النسوية، في كل إبداعاتها؛ فقد دعا أصحاب النقد النسوي الجينثوي من بين دعاويهم إلى محاولة تحديد سمات لغة الأنثى ومعالمها أو الأسلوب الأنثوي المتميز في الكلام المنطوق ( الحكي) والمكتوب وبنية الجملة أنواع العلاقات بين عناصر الخطاب وخصائص الصر المجازية والخيالية(البازعي، 2005).

فالمكان مثلا في الرواية الأنثوية أو ما سمي بالرواية النسوية، هو الفضاء الذي تضفي عليه الأنثى من صبغتها فيصير إليها فضاء، والعلاقة تتجاوز الوجود الحسي المرتبط بزمن خطي إلى الوجود الهاجسي أو الذهني الذي يرسم وجود الأنثى، و المكان مثلا في السرد الروائي كما في خارجه لا يُفهم معناه إلا اذا امتزج فكريا بالآثار التي تتحين موجوداتها فيه، وفي الرواية النسوية بعامة نجد أن تعالق عناصر السرد بوجود الأنثى يُنشئ دلالات أغنى وأكثر كينونة لأن الأنثى ألصق بالمكان وبالزمان من الرجل، فالمكان هو الحامل الثقافي للوجود الأنثوي بكل ما في الكلمة من معنى الوجود والانتماء والهيمنة أو السيطرة وفيه وعليه تحاول الأنثى أن تجعله السكينة للمملكة التي يضاهيها وجود الرجل ، وبكل شراسة تحارب الأنثى لامتلاك المكان والانتماء إليه على اختلاف مفهوم الأمكنة في السرد بين الانفتاح والانغلاق.

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا أشرنا إلى أنّ الفكرة نسبية بين رؤية الرجل للمرأة في السرد أو العكس والدائرة تنفتح للحديث عن الصراع بين الكتابة الذكورية والكتابة النسوية، فتمثّلات المرأة في السرد الروائي عديدة تتصل في كل حالاتها بالجانب المعنوي للذات المخاطبة، وكثيرا ما نصادف المرأة في تمثّلات المكان مهما كان حيزه الجغرافي من بيت ومدينة أو وطن ونجدها كذلك في تمثّلات الرمز الأدبي الطبيعي وفي العلامة اللغوية وغيرها لأنها اصطبغت بصبغة الكتابة/ الأنثى العصية عن الانقياد والفهم.

1-  في مفهوم الشخصية السردية:

عرفت الشخصية الروائية اهتماما كبيرا في النقد السردي العربي المعاصر، وارتبطت دراستها بالمناهج السردية العاصرة السياقية منها والنسقية، فهي(عالم معقد شديد التركيب، والشخصية كائن له وجود فيزيقي فتوصف ملامحها وقامتها وصوتها وملابسها وسحنتها وسنها وأهواؤها وهواجسها وأمانها وآلامها وسعادتها وشقاؤها) (مرتاض، 1998).   

وبالنظر إلى كون الشخصية في السرد العربي عالم قائم بذاته، وكيان حيوي في الرواية؛ فإنّها صارت تحدد الجنس الأدبي، والروائي يهتم بها بحياتها ووظائفها وعالمها النفسي وبتحريكها للأحداث، والراوي يقدم شخصياته الرواية في مسافة معرفة كاملة بها ويحاول تفعيل مشاركة القارئ في اكتشاف الشخصية والتفاعل معها وبناء علاقة قوية معها تصادمية أو توافقية أو غير ذلك.

تعد الشخصية أهم مرتكز يتكئ عليه السرد لما عرفه الأخير من تطور ارتبط بوجهات نظر تكوينية للشخصية السردية ولعلاقاتها بالعالم، ولأن الشخصية الروائية أكثر غموضا وعصية عن التحديد النهائي، فإن الأمر يبقى متعلقا بتبني مجال تعريفي محدد يكون قطب الرحى في محاور الدراسة؛ ذلك أن الشخصية-في عالم النقد –ذات “طبيعة مطاطية جعلتها خاضعة لكثير من المقولات دون أن تستقر على واحدة»  فمنذ البدايات النقدية الأولى لتحديد شخوص عملية المحاكاة تعاطي النقد الأرسطي معها من حيث إن رسم صورة الشخصية ترتبط بطبيعة الأحداث، وبقيت محل ترصّد لرسم علاقتها بالعالم عبر حقب زمنية شكّل السرد فيها جسرا ربط الإنسان بالعالم عبر متخيل أدبي.

لقد رفض نقاد البنيوية بصفة مطلقة اختزال الشخصية في السرد لرؤية سيكولوجية بحتة، يقول تودوروف “إن اختزال الشخصية في علم النفس ليس مبررا…لقياس اعتباطية هذا التحديد فلنتذكر شخصيات الأدب القديم والقرون الوسطى أو عصر النهضة. إن علم النفس لا يوجد في الشخصيات ولا حتى في المحمولات (صفات أو أحداث)” (تودوروف، 2005) بمعنى أنه –أي علم النفس- يكون أداة من أدوات التحليل ربما لا غنى عنها ولكنه ليس الغاية في فهم وتحديد علاقة الشخصية بالعالم؛ ذلك أن الشخصية هي قبل كل شيء كائنات على الورق أو لسانية التشكيل أساسا؛ أي إننا أمام لعبة حروف وكلمات متفق عليها لتأدية وظائف داخل السرد، أو هي عبارة عن تشكيل “يرتبط أساسا بالوظيفة النحوية التي تقوم بها الشخصية داخل النص، أما وظيفتها الأدبية فتأتي حين يحتكم الناقد إلى المقاييس الثقافية والجمالية” (بحراوي، 1990).

أدخل البنيويون -بهذا التصور الجديد- الدرس اللساني في تحديدات الشخصية الروائية، واتصل ذلك بنسيج الوظائف المؤداة عبر مساحة السرد، ليتطور إلى التقاء الشخصية الروائية بمفهوم العلامة اللغوية عندما تتكاثف دوال متقطعة مكونة من العلامات والنعوت ومجموعة من المحمولات الدلالية المتفرقة، وتشكّل – عبر تواجدها في مستويات الخطاب- الشخصية دلاليا، ولإجراء التحليل يتعين هنا على الناقد العمل بإجراءات جديدة تعتمد على مستويات التحليل اللساني والسيميائي، من منطلق يعتبر الشخصية على اختلاف انتمائها إلى جنس أدبي ما (رواية، مسرح، حكاية،…الخ) عبارة عن «مورفيم فارغ في الأصل سيمتلئ تدريجيا بالدلالة كلما تقدمنا في قراءة النص» (بحراوي، 1990، صفحة 213)، وبالموازاة مع سيرورة القراءة والبناء الدلالي للشخصية في الرواية، يفترض الشيء ذاته في سيرورة العرض السينمائي فتتشكل صورة الشخصية دلاليا عبر مجموعة أيقونات تؤلف وحدات علامية، تعبُر مستوى التشكيل اللغوي إلى مستوى تشكيل أوسع، تتجمع فيه عناصر عبر لغوية في تناسق وتجاور بنيوي لأداء وظيفة دلالية للشخصية كما لعناصر السرد الأخرى كالزمان والمكان

2-1 -الشخصية الروائية في الدرس السيميائي:

يرى فيليب هامون أنّ الشخصية في الرواية هي علامة يجري لها ما يجري على غيرها، وتحققها يكون داخل النسق العلاماتي، إنها كائن حي يتحرك ويتعالق داخل الكتابة السردية؛ فهي ليست مقولة أدبية محضة، ولا ترتبط بنسق سيميائي خالص مثل اللساني، لأنها تتمثل في أشياء أخرى كالمسرح مثلا، وهي أيضا ليت مقولة مؤنسنة تحيل على الإنسان بل إلى أشياء أخرى مجردة أو أدوات ينظر إليها في إطار محيطها التي تنتمي إليه، ولعل أهميتها في النص السردي -عند هامون- كونها التي يشيّد عليها العمل السردي، يقول ( الشخصية بناء يقوم النص بتشييده، أكثر مما هي معيار مفروض من خارج النص) (هامون، 2012)، والشخصية في السرد -عند هامون- تعتبر دليلا يتميز عن الدليل اللغوي اللساني، من حيث إنها ليست جاهزة، ولكنها تحول إلى دليل فقط ساعة بنائها في النص (لحميداني، 2000) بمعنى إن وجودها في النص يعد- حسب هامون- دليلا لسانيا يتحوّل إلى دليل أدبي بفضل القراءة التي يحتكم الناقد فيها إلى المقاييس الثقافية الجمالية.

إنّ الوجود اللساني للشخصية كدليل يعطي لدراسة الشخصية سمة الدراسة التأويلية، أو القابلية للتحليل والوصف بالاتكاء على عديد المعارف والمرجعيات، ويستوجب في دراستها وضعها في سياقها المعرفي أو الإحالي ووضعها في سياقها الشكلي في النص، ومن ثم فالقراءة تكون مزدوجة لكنها متكاملة لدراسة الشخصية، بمعنى قراءتها من جهة إحالاتها وما تدل عليه ومن جهة أخرى قراءة تموضعها في النص والعلاقات التي تبنيها كونها علامة.

 

 

2-2-  تصنيف الشخصية الروائية عند فيليب هامون:

أ‌-     الشخصيات المرجعية:

وهي الشخصيات المعروفة لدينا الموجودة في أذهاننا من خلال النصوص التي تناولت حياة هذه الشخصيات، فهي شخصية قد سبق المعرفة بها وقد تكون أسطورية أو مجازية (المحبة مثلا) أو اجتماعية وتحيل هذه الشخصيات كلها على معنى ممتلئ وثابت حققته ثقافة ما (هامون، 2012، صفحة 8)

ب‌-    الشخصيات الإشارية:

يعرفها هامون بالعلامات التي تكشف عن حدود المؤلف أو القارئ وهي شخصيات من الصعب الإمساك بها أو تحديدها لأن الكاتب لا يشير إليها بطريقة مباشرة وإنما بطريقة تمويهية فالكاتب قد يكون حاضرا بشكل قبلي وبنفس الدرجة وراء (هو) و(أنا) وراء شخصية أقل تميزا أو وراء شخصية متميزة كثيرا (هامون، 2012، صفحة 20).

ت‌-    الشخصيات الاستذكارية:

يقوم هذا النوع من الشخصيات على استذكار الماضي والاستشهاد بالأسلاف، ويرى أنّ بلورة نظرية عامة للشخصيات تتم انطلاقا من مقولة المعادلة والاستبدال والاستذكار (هامون، 2012، صفحة 25)؛ أي انطلاقا من فئة الشخصيات الاستذكارية التي يكمن دورها في ربط أجزاء العمل السري. وقبل أن نلج عوالم روايتنا سيدات القمر نؤكد على أن الكتابة النسوية العمانية تطورت في الآونة الأخيرة تطورا ملحوظا راسمة مكانا متقدما في عالم الكتابة النسوية.

2-3-  عالم رواية سيدات القمر:

تدور أحداث رواية “سيدات القمر” في فضاء يمتزج فيه التاريخ العماني الحديث برائحة الأرض التي تحكي كل حبة تراب فيها قصة من طلعت عليهم الشمس العربية الأصيلة في مزارع العوافي وطرقات عبري ومسقط، وكل ما في عمان من تركيب إنساني تتحرك فيه مشاعر الناس على طبقاتهم بين سيد ومسود، رجل وامرأة، صبي وبنت، حكاية المجتمع العماني الحديث المتمسك بثقافته يأخذها في ذاكرته أينما حل وارتحل، حكاية مجتمع يتطوّر ويتمدّن ولا يواكب سرعة العصر إلا شكلا؛ لارتباطه السحيق بالإنسان العربي العماني النمطي الذي يتغلغل في لاشعور النفس فيتمثّل في تصرفات تقيّدها التقاليد والأعراف، ويتمثّل في ذلك اللغط الناقد لسلبيات المدنية الحديثة الأمر الذي يجعل من العماني في الرواية يعيش زخم المدنية بعمق التقاليد المتوارثة.

إن أحداث (سيدات القمر) تعتمد على السرد الاسترجاعي الذي تتعرى فيه الحواري والبيوت في العوافي والأسواق والمدرسة، وتتحرك فيه شخصيات المدينة الزراعية ويرتسم فيه مسار تاريخي سِيَري لشخصية عبد الله بعيني عبد الله ذاته في فضاء مكاني محدود المعالم هو الطائرة التي تقله إلى فرانكفورت الألمانية، ولأنّ المكان المنفتح على سرد الاسترجاع وهو الطائرة وهو فضاء مكاني مغلق؛ فإنه الذي فتح نخروب الذاكرة والانكفاء على الذات تسترجع الأحداث منذ البدء، تتبع سيرورة ميا زوجة عبد الله، وأولاده (لندن الطبيبة، وسالم، ومحمد المريض بالتوحد) بل تتبع سيرورة الحب والحلم، وصيرورة الحياة في العوافي خاصة، بكل زخم الطفولة وملاحظات البراءة لأسرار الكبار. عبد الله ابن التاجر الثري سليمان، لم ير أمه فقد ماتت وتركته يبحث وراءها عن قبس يهديه إلى حقيقة موتها، وبين بحثه الدائم في عيون الناس حوله وسؤاله الدائم تتكشف حقيقة مقتلها من عمته، لكنه عاجز، ضعيف ورث عنها ضعفها واستكانتها ولعلها التي أورثته ضعف شخصيته وأحلامه. وهو الذي جاء بعد انتظار طويل جاء لتموت أمه من دون أن يعرفها وكانت ضحية الحسد وضحية التفكير السحري التقليدي الشعبي المتوارث الذي يغلّف أسوا جرائم المجتمع التقليدي.

2-4-  السرد والسنن في سيدات القمر:

السرد في الرواية اعتمد في رؤيتين، الراوي العليم بضمير الغائب، وفي -مجمله- اعتمد على (الرؤية مع) وهو السرد الذي يتكئ على ضمير الأنا، وفي نصّنا السردي نجد (عبد الله) اعتمد على الذاكرة في استرجاع الأحداث وإعادة قراءتها وتفحّصها وسؤالها، ومحاولة فهم ألغازها بتقمص حالات نفسية والده التاجر سليمان الذي عشّش في لاشعور عبد الله، كما رأى بمنظاره الحالات النفسية والفكرية لكل شخوص الرواية المحبة والحاسدة والمبغضة والحالمة، يرى بعينه سير التاريخ الإنساني ممثلا في حياة والده التي تمتد إليه وإلى أبنائه. يراها في نفسه العاجزة في كل حالاتها، و التي لا تعرف التمرد على الأبد- هذه في نظرنا العقدة الأساسية التي ربطت خيوط النص- وترفع راية الانهزام والتبعية التامة الكاملة، طاعة متوارثة، وانكفاء على الذات، وتواكل مطلق على الأب (ولكنني كالعادة لم أناقشه) (الحارثي، 2010)، ذلك الأب الذي جعل من عبد الله فارغا مجوفا مقيد الإرادة يعيش في أحلامه البعيدة عيشة تقهرها السلطة الأبوية التي انتقلت من طفولته لشبابه لزواجه لأبنائه، قالت له زوج عمه يوم ولدت له ابنة سمتها زوجته لندن (وقفت امرأة عمي في حوش بيتها المصبوب بالإسمنت في وادي عدي، وضعت يديها على وسطها وصاحت في وجهي: “تربية أبوك المتسلط لك سحقت شخصيتك، مالك شور في اسم بنتك؟ .. لندن؟ .. هذا اسم هذا؟ ..شفت أحد يسمي بنته العوافي أو مطرح أو نزوى أو وادي عدي؟” (الحارثي، 2010، صفحة 24)  ولعل ضعف شخصيته التي لازمته طول عمره قابلتها جرأة ابنته لندن التي تقول له بكل صراحة وصرامة:(تقول لي: “سلبي..أنت سلبي يا أبي..”).

لكن السلبية وفقدان الثقة في النفس إحساس عاش جنبا إلى جنب حياته الرتيبة التي يعتبره الناس فيها محظوظا لأنه غني وابن تاجر، لكن ذلك جعل منه انسانا رتيب فارغا مجوف النفس والروح يصيح بلا صوت، يقول (رجل سعيد يقود سيارة أبيه إلى بيته، حيث المرأة التي يحبها، وطفلتهما، وأبوه. هذا ما كنته، مجرد رجل سعيد، شاب لم يكد يتخطى العشرين من عمره ولا يفكر في الحلم بأبعد مما هو بين يديه، بل يخاف مما هو بين يديه.) (الحارثي، 2010، صفحة 60)

 لكن حالة العجز التي في شخصية عبد الله، التي جعلت من صياحه صامتا، ومن قوته ظلما لنفسه، تمظهرت في الرواية بصورة واحدة، تمرد واحد رسم صورة نهاية مفتوحة للرواية، إنها علاقته بابنه المريض الذي لا حول له ولا قوة، تلك النهاية التي أرادها عبد الله نهاية لابنه الذي أتعبه، أرهقه، جعله متمردا ثائرا، عبد الله جمع كل انهزامات الحياة ليثأر من ابنه المريض؛ لأنه أمام ابنه بلا خوف، الموضع الوحيد الذي لا خوف به هو ابنه محمد مريض التوحد، انفجر في وجهه أراد التخلص منه ليتخلص من عجزه ليثأر مرة وينتصر على نفسه، على روح أبيه التي ترافقه، تهمس في خياله، تلسع روحه، وتسري في دماه.

إنّنا لا نعتبر الرواية التي بين أيدينا سيرة ذاتية لعبد الله ولد التاجر سليمان أو وثيقة تاريخية لأسرة عمانية مخضرمة عاشت البساطة التقليدية بكل تفاصيلها وطقوسها، كما عاشت المدنية المفرطة الآلية، لكنّنا نعتبرها السرد الواقعي محمّلا بفضاءات التخييل السحري.

 والرواية إذ تطرح على بساط أحداثها مواضيع العبودية والمقاومة والتحول المجتمعي للعمانيين في عصر البترول، والتعليم، والطقوس السحرية والتمائم.. وغيرها؛ فإنّها تجعل من موضوع الفكر التقليدي الأخلاقي القار في نفوس العمانيين محور ذلك الطرح، يجمع إليه كل تلك الموضوعات الجانبية التي تعتبر مسننات أيديولوجية، متمثلة في سلوكات الجيل الثالث (أبناء عبد الله) وأحلام الجيل الثاني (جيل عبد الله ابن التاجر وزوجته ميا وأخواتها، والعبد سنجر وزياد)، وصرامة الجيل الأول (التاجر سليمان والشيخ سعيد والمهاجر وغيرهم) كما أن هذا الموضوع هو محور تحليل الموضوعات -التي نعتبرها جانبية- تُجلى شيئا من خفايا الأسرار التي يُشكل فهمها عن القارئ غير العماني فتنفتح القراءة وتتعالى إلى فضاءات التلقي.

إنّ إدخال موضوعات التأريخ العماني والمقاومة في الجبل الأخضر، ومعاهدات تحرير العبيد وانتقال الإمامة إلى سلطنة وغيرها من مواضيع تجارة العبيد والقرصنة، يعتبر في السيميائية المعاصرة مسننات تأويلية تعمل على توجيه القراءة وتعمل على تحديد مسار السميوزيس التأويلي، لكنها تقع في مسافة الصراع بين مقصدية الكتابة ومقصدية القراءة؛ ذلك أنّ مثل تلك الموضوعات تمثل مخارج أيديولوجية تشتغل في مساحة التجاذب التأويلي بين فعل القراءة وبين الفعل الكتابة، ويمكن اعتبارها أسنانا تأويلية تعمل على تخريجات للمعنى في النص، ذلك أن السنن كما يراه
بارث
 Barthes هو “وعد بإحالة، إنه بنيات من سراب، إننا لا نعرف عنه إلا نقطة انطلاقة ونقطة عودة. إن الوحدات الناتجة عن السنن-تلك التي نقوم بإحصائها-تشكل في حد ذاتها مخارج للنصوص، إنها سمة ونقطة للانزياح المحتمل عن السجل، إنها شظايا لهذا الشيء الذي سُبق وأن قُرأ ورُؤي وعيش. إن السنن هو الآثار التي تدل على شيء سابق” (بنكراد، 1996)، ومن ثم يعمل على تحديد طبيعة العلاقة التي يقدمها النص السردي بين النص كشكل تحقق تصدر من الإنسان، وبين تصور الإنسان وفهمه للكون من خلال تحيين المعنى في شكل مادي لغوي.

إنّ السّنن في مجمل تعاريفه لا يخرج عن إطار كونه “مجموعة من الرموز أو العلامات المنظمة بدقة وصرامة لترجمة نص أو إرسال رسالة”، وفي النصوص الأدبية يشتغل على مساحة البنية اللغوية في تمكين معالم فعل التلقي.

إنّه الإحالة إلى المعنى وإلى النسق، لأن الأيقونات والأشياء الخارجية لا ينظر إليها إلاّ ضمن نسق ما، يؤطر حالة الإدراك الذي ينتمي إليه السنن، والكتابة كتمثيل أيقوني تشتغل وفق سنن أيقوني يحدّد درجة التماثل والتشابه بين النمط الأصل وتحيينه الأيقوني، ومن ثم يحدّد السنن نمط إنتاج وإعادة إنتاج عناصر التجربة الواقعية.

إنّ عالم سيدات القمر – الكثيف- بتفاصيله المتناهية في الدقة يقسم الرواية إلى قسمين كبيرين، أولهما التفاصيل الدقيقة الكثيفة للشخصيات وللفضاءات الجغرافية في العوافي، والثاني تجميع لخيوط التفاصيل، ولانّ المقام لا يتسع للأمر هذا فإنّنا نقول إن هذه التقنية المقطعية التفصيلية تستلهم التقنية السينمائية المعتمدة على التفصيل ثم التجميع.

3-      شخصية (عبد الله) بين التشكيل اللساني وانفتاح التأويلية:

نحاول في قراءتنا السيميائية لشخصية عبد الله الانطلاق من محاور سيميائية قدّمها في شكلها النظري فيليب هامون، هي الدال والمدلول؛ والبحث في العلاقات التي تبنيها الشخصية/ العلامة، يفترض قراءة عميقة للسياق الذي ترد فيه بكونها الدلالي؛ لأنّ( الشخصية علامة إنسانية تخضع المزدوج وتندرج في شبكة العلامات السياقية، لها وجه دال ووجه مدلول) (رقيق، 1998)  ووجودها اللساني في السرد يجعلها وحدة دلالية( قابلة للتحليل والوصف وليس كمعطى قبلي وثابت) (بحراوي، 1990) ، من هذا المنطلق نقرأ شخصية عبد الله الساردة بين ضمير الأنا وضمير الغائب. نقرؤها كونها دال لساني من جهة، وبالنظر للسياقات الواردة فيه نقرؤها دلاليا، ومن ثم نحاول قراءة العلاقات التي تبنيها.

3-1-   الشخصية دال: إنّ ما يركّز السيميائي هامون عليه هو كون الدال (الاسم) يدخل في علاقة قوية مع المدلول، فقد يكون للشخصية اسم وظيفة او حرف صوتي فقط أو غيرها، لكنّنا نرى أنّ الروائية قدمت الشخصية الرئيسية هنا باسم (عبد الله) وفيه نقرأ:

·         الخاصية النحوية: إنّ التركيب الاسمي (عبد الله) يعتمد اسم الجلالة مضافا إلى (عبد) وبغير المضاف اليه لا قيمة تعريفية للاسم المضاف، والامر هنا يتعلق بالاسم (عبد)، فالرباط هنا واجب، قال ابن جني: (فكلما ازداد الجزءان اتصالا، قوي قبح الفصل بينهما)  فالتركيب الدال (عبد الله) لم يكن -في اختيار الروائية- اعتباطيا، ونقرأ دلالته بعد وصفه النحوي كما يلي.

·         الخاصية الدلالية: إنّ الاسم (عبد الله) كونه السارد الأساسي في الرواية، وكونه يعاني عقدة الأب والسيطرة والبحث عن الذات ويعاني رؤية الناس المنتقصة له وذوبان شخصيته في جلباب أبيه، جعلت من الانفصال عنه عقدة القصة الأساسية. وقد انعكس ذلك تماما في اختيار الروائية للاسم (عبد الله) وهو تركيب تعريفي – كما أسلفنا- تلغي الانفصال فيه قيمة المضاف، والشخصية هنا – على مدار الفضاء السردي- لا قيمة لها دون وجود الأب، ومرّ ذلك بفترتين: قبل وفاة الأب، وبعد وفاته.

-قبل وفاة الاب: إنّ شخصية عبد الله الطفل في الرواية تكونت بالقالب الذي أراده له أبوه (التاجر سليمان) وقد كان كثير الالتصاق به، يرى بعينه ويمشي بخطواته، حتى أن التاجر سليمان لم يعمل على زرع الثقة في نفسية الطفل لبناء شخصيته، ومظاهر ذلك كانت اسمه (الملغى) وتربيته القاسية، والعالم من حوله، وهي عناصر وسعت من دائرة فقدانه لشخصيته وعملت على رسم النهاية المفتوحة للرواية:

 * الاسم عبد الله: ربما لو عملنا استقصاء عدديا لجملة يا ولد (أكثر من 150مرة) لكننا نركز على نموذج واحد يصور الصراع الذي بين عبد الله الابن وبين أحلامه التي لا تتحقق، في حوار الأب قلت له: أبي صاح بي: (يا ولـــــد.. يا ولـــــد”، كنت أبا لثلاثة أطفال، لم أكن ولـــــدا…) (الحارثي، 2010، صفحة 9)، وعلاقة الابن عبد الله بأبيه علاقة تبعية مطلقة وذوبان كامل تام، وذلك هو محور الصراع في الرواية. حتى الزوجة لم تكن تناديه باسمه (قلت لها: “يا ميا” قالت لي: “يا رجل”. “يا رجل”. “يا رجل”.) ولعلنا لا نحتاج إلى شرح وتأكيد حجم الانهزام وقسوته التي تعاني الشخصية منه بين نار قسوة الأب وضياعه في حب من طرف واحد هو حبه لزوجته التي لم تناده باسمه. ولو أردنا تأكيدا لذلك لربطنا بين التركيب اللساني عبد الله الدال على العبادة المطلقة والتبعية التامة لله، وهو الربط الذي سمّاه السيميائيون بـ (التشاكل) بما أقرّه عبد الله في ذاته من خلال رسائله إلى أبيه التي يقر له فيها بالعبودية، والتي امّحى متنها من ذاكرته التي لم تحتفظ إلا بألفاظ التبعية المطلقة (وكتبت له بعد أيام رسالة ابتدأتها كما جرت العادة بعد البسملة بقولي: “إلى سيدي ووالدي العزيز الأجل الأكرم”، وختمتها بتوقيعي: “خادمك وابنك المنتظر عطفك: عبدالله”، نسيت متن الرسالة الآن) (الحارثي، 2010، صفحة 25)

* التربية القاسية: ربّى التاجر سليمان ولده عبد الله على قسوة مفرطة بين ضرب وإهانة وحرمان وتدلية في البئر، أثّر كثيرا على طفولة رُسمت بألوان باهتة صفراء شاحبة فاقدة لروح وللشخصية فنجده كثيرا ما يذكر حبل الليف الذي علّق به في البئر، فالأب كان يدلي ابنه في البئر عقوبة له، (نكسني أبي مربوطا في البئر عقابا لي، ونمت شديد العطش، بعد كوابيس كثيرة، رضيت مسعودة أخيرا أن تحكي عن أمي). ويحرمه من مصروف المدرسة التي كان يأخذها حتى أبناء الطبقة العادية (ولم يسخر مني أحد لكني أحسست بالخزي والعار وتمنيت لو كان أبي مزارعا كمعظم الآباء. وفي الفسحة كنت وزايد الولـــــدين الوحيدين في الصف اللذين لم يذهبا للمقصف، كان كلانا لا يملك مصروفا، أبي لم يقتنع قط – حتى وصولي للإعدادي- أن عليه أن يعطيني مائة بيسة كل يوم من أجل المدرسة، وحين حصلت عليها أخيرا في الإعدادي كان الناس يعطون أولادهم مائتي بيسة أو ثلاثمائة، كان عليَّ دائما أن أختار بين الخبز والجبن وشراب السن توب، ولم أستطع الحصول عليهما معا حتى أنهيت الثانوية.) (الحارثي، 2010، صفحة 37) . هذه الطفولة جعلت من شخصية عبد الله تتشاكل مع اسمه في معنى العبودية المطلقة لأبيه.

بالإضافة إلى الضرب المبرح والقسوة نأخذ نموذجا أقسى من الضرب هو الاهانة في المقطع التالي (أعطوني شهادة الثانوية في حفل التكريم. في المساء أريتها أبي وأنا ألهث. ضحك وقال: ولهثت هكذا مثل الكلب أمام الناس؟ .. لن تنفعك هذه القرطاسة ينفعك هذا”، وضرب جيب دشداشته. ضحك. ضحك. ضحك.) (الحارثي، 2010، صفحة 16).

تمتد قسوة الأب مع عبد الله إلى كبره وزواجه (أرجوك يا أبي أريد أسافر مصر أو العراق أدرس في الجامعة”، فشدَّني من رقبتي وصرخ: “وحياة هذه اللحية ما تطلع من عمان.. تريد تتسفل؟ وترجع من مصر والعراق حالق لحيتك تدخن وتشرب؟..”، واشتغلت في تجارته بعد الثانوية مباشرة لكني لم أنتقل تماما لمسقط حتى توفي) (الحارثي، 2010، صفحة 8).

* العالم حول الطفل ألغى شخصيته: نجد في مواضع كثيرة حوارات لا يذكر فيها اسم (عبد الله) فالعالم من حوله (الأب، الزوجة، أم الزوجة، زوجة العم، …. الخ) لا يعترف بشخصية التي ألغاها أبوه ولم يستطع هو بناءها أو إرجاعها فانساق العالم من حوله في رسم الصارة الملغاة بألوان الضعف والاستهزاء وبرز ذلك بداية بزوجته (لماذا أرسلت لي ولد التاجر سليمان) و( اسمع يا رجل)، وحين قالت له معاتبة ( قبل ذلك بأعوام قالت لي:” ألا ترى أنك تبالغ في احترام والدك؟) (الحارثي، 2010، صفحة 15)  وكذلك أم زوجته (ولد التاجر سليمان يخطبك)، وعدم قدرته على تسمية ابنته وهذا في نظر العالم حوله ضعف بيّن ( امرأة عمي في بيت وادي عدي القديم وقفت في الحوش وعنفتني بأعلى صوتها: “لندن؟ ووافقت؟ ما لك شور في اسم ابنتك؟..”) (الحارثي، 2010، صفحة 7)،  وكذلك حين قالت ظريفة الخادم لما سمّت ميا ابنتها باسم غريب عن أهل العوافي (تمتمت ظريفة: “الله يرحمها، كانت في حالها، ناقة الله وسقياها، لكن الناس ما ترحم، وهذا عبد الله طلع عليها لا في العير ولا في النفير، شيء رجل يخلي امرأته تسمي بنته هذا الاسم الغريب؟ ..لكن كيف أتكلم؟ .) (الحارثي، 2010، صفحة 32).  

    بعد وفاة الأب:

بعد وفاة الأب أو أثناء وفاته، نجد عبه الله تائه بلا روح وكأن موت الأب – الذي كان سببا في إلغاء شخصيته- هو موته (عشت طوال هذه السنوات الست في رعب متصل من فكرة موته، وحين مات أحسست أنه فعل ذلك مرارا من قبل لدرجة أن موته لم يرحمني ولم يزحزح رعبي. في الأسابيع الأولى التي تلت موته لم أستطع النوم من شدة الغضب، كان الغضب يتسلل مثل عود ثقاب في دمي ويحرقني) (الحارثي، 2010، صفحة 99).

وقد تمظهر خوف عبد الله وعجزه في إقراره بعجزه حتى في لحظات غضبه الذي كان قبل الأب ولازال بعده (. نفس الغضب العاجز الذي شعرت به حين أزالت الممرضة الأنابيب عن جسد أبي لتعلن وفاته، الغضب الذي جعلني أصرخ بلا صوت وأبكي بلا دموع. لكنه غضب عاجز، كل ما يفعله هو منعي من التنفس.) (الحارثي، 2010، صفحة 30).

شخصية عبد الله ترافقها روح الأب في همساته ولمساته وأوامره، مما يجعل من موت الأب أمرا شكليا فقط، هذا ما أكده عبد الله حينما ماتت الخادم ظريفة (. شعرت بأن أبي سيعاقبني على تركها تموت بعيدة ووحيدة بتنكيسي في البئر مربوطا بحبال الليف.) بل وصل أمر الخوف حتى في أحلام عبد الله الذي كان يرى أباه في منامه (رأيت أبي في المنام محمر العينين من شدة الغضب، رأيته يلوح في وجهي بحبل الليف وهو يسألني عنها.) والأكثر من هذا أن روح الأب التي تغلغلت في روح عبد الله جعلت من حركاته وسكنته تتحرك بإرادة الأب المتجسدة في عبد الله يقول عن ابنه سالم (أردت أن أصرخ في وجهه أكثر، لكني لم أتعرف الصوت الذي خرج مني، لم يكن صوتي. كان صوت أبي في عتمة باب بيته يلكم وجهي ورأسي.) (الحارثي، 2010، صفحة 50).

إنّ صورة عجز عبد الله وانتكاساته رافقته منذ الطفولة إلى باقي حياته، ولعل لحظة وفاة والده في المستشفى؛ قطعت تنفسه وكتمت صراخه، ذلك الصراخ الصامت الذي لم يخرج إلاّ مرتطما بجدران البئر في صغره منكسا في البئر (الصراخ، هذا ما فعلته ظريفة حين أسلم أبي الروح في مستشفى النهضة، هذا ما لم أفعله قط إلا منكسا في بئر.) (الحارثي، 2010، صفحة 74).

3-2-     الشخصية المدلول:

ندرس في هذا العنصر العلاقة التي بين الشخصية عبد الله مع السياقات التيمية التي قام النص بتأثيثها لبناء عالمه، وهي تيمات تلامس عديد المظاهر الحياتي للمجتمع العماني المكثف في مدينة العوافي بخاصة وغيرها مما يرسم عالم العمانيين برؤية الكاتبة.

نحاول هنا أن نطبّق سيميائيا الترسيمة العاملية لغريماس؛ حيث الأفعال في السرد لا تؤديها بالضرورة الشخصيات. استفاد(غريماس) في تحديده لمفهوم العامل من الدراسات الميثولوجية التي فرقت بين التحليل الوظيفي(الأفعال) والتحليل الوصفي (الألقاب والمظاهر الوصفية)؛ حيث رأى أن هناك تكاملا أساسيا بينهما، كما أفاد من أعمال (بروب)في دراسته للحكاية الخرافية، ولاحظ أنّ هذا الباحث أوضح مفهوم العوامل دون أن يضع بالضرورة المصطلح نفسه، وخاصة عندما وزع الوظائف المتعددة على سبع شخصيات، وهي التي اعتبرها بمثابة عوامل، ورأى غريماس أّنه إذا سّلمنا مع بروب بأنّ الحكاية هي تتابع لحدود ثلاثين وظيفة، فإنّ ذلك يفترض حتما التساؤل حول ماهية الوظيفة، يقول فإذا وضعنا ثقتنا في حدس بروب حين يعتبر الوظائف بأنها تعطي دوائر أفعال شخوص القصة، فإن الصيغ التي تعطيه الوظائف مختلفة توقعنا في أغلب الأحيان في حيرة؛ فإن كان رحيلا لبطل يبدو وظيفة تتطابق مع نوع النشاط، فإن النقص Le Manque  لا يمكن اعتباره وظيفة.(غريماس، 1988) ، وبعيدا عن أن يكون فعلا فهو يعيّن حالة Etat، ويقترح غريماس في هذا الشأن نموذجا موازيا للتحليل أسماه النموذج العاملي model metontiel يقوم على ستة عوامل تأتلف في ثلاث علاقات، ويعتبر غريماس العوامل كائنات وأشياء؛ فليس من الضروري أن يكون العامل شخصا ممثلا، فقد يكون مجرد فكرة، كفكرة الدهر أو التاريخ، وقد يكون جمادا أو حيوانا..الخ (لحميداني، 2000، صفحة 52)   وتصنف العوامل ضمن ثلاث ثنائيات:

-الذات/الموضوع: وتجمعهما علاقة اللذة أو الرغبة؛ أي بين من يرغب (الذات) أو(الفاعل) وبين مرغوب فيه (الموضوع ) وهذا المحور الرئيسي يوجد في أساس الملفوظات Enoncés وفق نمطين:

*  ملفوظات حالة: تحدد وضعية التواصل بين الذات والموضوع؛ فإما أن تكون في حالة اتصال وتسعى إلى الانفصال وتجمعهما علاقة اللذة أو الرغبة؛ أي بين : – الذات/ الموضوع من أو العكس.

*  ملفوظات إنجاز: وتعمل على تطوير الحكي والانتقال من حالة إلى أخرى، ويقود التوالي بينهما إلى حدوث تفاعل بين مختلف العوامل.:

المرسل/المرسل إليه: Destinateur/Destinataire وجود هذه الثنائية إحالة على وجود منظومة من القيم تحكم منطق الأفعال؛ فوظيفة المرسل تتمّثل في المحافظة على هذه القيم وصيانتها وضمان استمرارها، وذلك بتبليغها إلى المرسل إليه» وتأتلف هذه الثنائية في علاقة التواصل التي تمر حتما بعلاقة الرغبة؛ إذ إنّ المرسلهو الذي يجعل الذات ترغب في شيء ما، والمرسل إليه هو الذي يعترف لذات الإنجاز بأنها قامت بالمهمة بأحسن وجه» (لحميداني، 2000، صفحة 36)

 

– المساعد / المعارض :Adjuvant / Opposant تأتلف في علاقة الصراع، وتتحدّد وظيفة المساعد في تقديم العون للفاعل أو الذات بغية تحقيق مشروعها لعمل يوال حصول على طلبته، فيما يقوم المعارض حائلا دون تحقيق الفاعل طلبته وعائقا في طريقه» (شعلان، 2003)  ومن خلال ائتلاف العلاقات الثلاث نحصل على هذه الصورة الكاملة النموذج العاملي:

إن النموذج العاملي من خلال الترسيمة لا يمكن أن يكون إلا نسبي التحقق على اعتبار حالات الصراع الإنساني ونشاطاته التي تبقى نسبية بالنظر إلى كون الفكر ينتفي والنمطية وحالات النمذجة؛ فكل حالة تقدمها الترسيمة العاملية يمكن أن تحدد مقطوعات سردية بعينها أو تكشف عن مستوى العلاقات التي بينها بهدف تفكيك شبكة العلاقات التي تحم عناصر الحدث في النص السردي بيد أنها لا تتمكن من التقديم النهائي النمطي لشبكة العلاقات. ومن هذا المنطلق نعتمد على كون الترسيمة عامل مساعد لفهم التسنين الأيديولوجي في السرد من خلال مقاربة نمطية لشخصية عبد الله وتمثيل صراعات الأيديولوجيا في السرد.

 

نبدأ أولا بطرح النموذج السيميائي المقترح:

إن شخصية عبد الله بضعفها وانهزامها وذوبانها في شخصية الأب الذي انتقل بعد موته إلى أحلام وآمال وتصرفات الابن عبد الله، فأحالها صورا باهتة لشخصية فقيرة مجوفة خائفة منهزمة، وكما أسلفنا أن لحظة القوة الوحيدة عند عبد الله هي في علاقته بابنه محمد المريض بمرض التوحد. تلك العلاقة التي تجلّت في هذا الحوار الرائع (وأنا انهلت عليه بالضرب مرددا: “فضحتنا، اسكت”. أخذ أبي السوط من يدي، ورماه في البحر، قلت له:” لكنك ميت، كيف عدت؟ فمضى ولم يلتفت، صحت فيه: “خذه معك، خذ محمدا معك يا أبي”.) (الحارثي، 2010، صفحة 122) . إن الابن المريض محمد مار يمثل الموضع الوحيد الذي يستطيع عبد الله هزمه لأنه يرى نفسه فيه يريد أن ينهي حياته إلى الأبد فتجلى له أبوه ليرفع عنه آلة التعذيب في إشارة راقية من الكاتبة إلى أنّ موت الابن هو موت حقيقي للتاجر سليمان وهو الحياة الجديدة لإنسان جديد تخلص من عجزه هو عبد الله، (حملت محمدا بين ذراعي، وفكرت إنه مثل السمكة، اقتربت من البحر الهائج، وغصت فيه حتى صدري، حين فتحت ذراعي انزلق محمد مثل السمكة، ورجعت دون أن أبتل.) (الحارثي، 2010) وهنا نفهم مباشرة تخلّص الأب عبد الله من ابنه المريض محمد الذي يرى نفسه فيه أراد أن يتخلص من نفسه المريضة، وكما رحل الأب إلى البحر أراد أن يغرق معه محمد المريض أو عبد الله الماضي والحاضر.

إنّ الترسيمة العاملية تؤطّر علاقة الذات (عبد الله) بالموضوع (ابنه المريض محمد الذي ضربه بالسوط وتخلص منه في البحر). والمرسل للذات في الترسيمة هو البحث عن الذات الضائعة منذ الطفولة، وهو الحافز على تحقيق فعل التخلص من الابن محمّد، ليحقّق ذاته (المرسل إليه) وقد حققها (فقد خرج من الماء من غير أن يبتل).

محور المساعد في الترسيمة الأنموذج يتمثّل مرض الابن لأنه لا يملك قوة فيكون هو المساعد للذات على إنجاز الفعل، أما المحور الأخير المتمثّل في المعارض فهو أو المعيق فهو إحساس الأبوة الذي استطاع التغلب عليه من خلال صورة الأب المتمثلة أمامه.

خاتمة:

نصل في ختام المقال إلى نتائج تتعلق بالمنهج من جهة ومن جهة أخرى تتعلق بالشخصية في رواية سيدات القمر وهي:

    مكّنت المقاربة السيميائية من قراءة الشخصية السردية في شكلها الدال والمدلول: فمن حيث كونها دالا فالشخصية علامة مفتوحة التأويل وبالتالي فإن حقيقتها تتشكل بالنظر إلى العلاقات التي تُنشئها والدوال الاخرى الوحدات اللغوية او عناصر السرد.

    الشخصية كمدلول ظهرت -من خلال تطبيقات النموذج العاملي- في مستوى العامل ومن ثم فإن دورها توافق مع عناصر السرد في تأثيث المعنى.

    الرواية العمانية من خلال مدونتنا، متطورة ومزدهرة وتمثّل عالما تواصليا فتح الحياة العمانية وصورها بتفاصيلها ونقلها إلى حدود كبيرة بخاصة في الوطن العربي وتم ذلك من خلال السرد النسوي الدال على رؤية خاصة من الكاتبة ومنظار فكري خاص لها، تمثل في قدرتها على تصوير كل من شخصية الرجل وشخصية المرأة بذات ساردة مخالفة أي رؤية المرأة للرجل والعكس. 

 

المراجع

جوخة الحارثي، سيدات القمر، دار الآداب، بيروت، ط1، 2010.

حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي،المركز الثقافي العربي ، بيروت /الدار البيضاء، ط1،1990.

حميد لحميداني، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت –الدار البيضاء، ط3 2000.

سعيد بنكراد ، النص السردي: نحو سيميائيات للأيديولوجيا، دار الأمان، المغرب، ط.1، 1996.

عبد المالك مرتاض، في نظرية الرواية- بحث في تقنيات السرد- دار الغرب للنشر، الجزائر 1998.

عبد الوهاب الرقيق، في السرد، دار محمد علي الحامي، تونس 1998.

تودوروف تزفيتان، مفاهيم سردية؛ ترجمة عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2005.

فيليب هامون، سيميولوجية الشخصيات السردية، تر سعيد بن كراد، دار الكلام الرباط.

غريماس، السيميائيات السردية، المكاسب والمشاريع، ترجمة سعيد بنكراد، مجلة آفاق، اتحاد كتاب المغرب، 1988، عدد 918.

شعلان عبد الوهاب، القراءة المحايثة للنص الأدبي، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، عدد 383، 2003، 01/04/2004:

 www.awa_dam.org/mokifadaby/ind_mokif38342004