استراتيجية الإقناع في الخطاب اللغوي، المفهوم والآليات

Persuasion strategy in linguistic discourse

“concept and means”

Dilsel Söylemde İkna Stratejisi – Kavram ve Araçlar 

د. فاطمة عماريش

Dr. Fatima amariche

جامعة الجيلالي بونعامة، الجزائر

Assistant Professor, University of Djilali bounaama, Algeria.

البريد الإلكتروني: f.amariche@univ-dbkm.dz

معرف (أوركيد): 0000-0002-7928-8486

بحث منشور بمجلة (ضاد مجلة لسانيات العربية وآدابها) المجلد الثاني- العدد الرابع– أكتوبر2021

PDF اضغط هنا لنسخة البحث

الملخص:

كان الإقناع -وما يزال-أبرز الأهداف التي يسعى المرسل إلى تحقيقها من وراء خطابه، فقد كان مطية القدماء والمحدثين؛ خلفاء وسلاطين، رُؤساء ومرءوسين، علماء ومتعلمين، فلا يقتصر على فئة معينة يعمدون إليه بغية إقناع الآخر بأفضلية خيار ما من بين جملة الخيارات المُتاحةِ لهم، لأجل ذلك يعد بديلا – في كثير من الأحيان – للقوّة في فصل النّزاعات والمناقشات؛ حيث تضمن تغيير وجهات النّظر والقناعات دون ضرر، فكيف يستطيع الخطاب الإقناعي تغيير وجهات النظر؟ تحت هذا الاشكال تأسست هذه الدراسة التي سعينا من خلالها إلى الكشف عن مختلف الوسائل التي تعتمدها استراتيجية الإقناع في الخطاب اللغوي.

الكلمات المفتاحية:

الاستراتيجية، الإقناع، الآليات، الخطاب، البلاغة

Abstract:

Persuasion was and still the most important goal that the sender seeks to achieve through his speech, for the ancients and moderns for  caliphs, sultans, chiefs and subordinates, scholars and educated people – not limited to a particular group – they resorted to it in order to convince the other that it is the best choice   among the options. For this reason, it is often considered an alternative to force in separating disputes and discussions, as it guarantees changing perspectives and convictions without harm. How can a persuasive discourse change viewpoints? Under these forms, this research paper was established through which we sought to reveal the various means adopted by the persuasion strategy in linguistic discourse.

Keywords:

Strategy, Persuasion, Mechanisms, Discourse, Rhetoric

 

 

 

 

    Özet

İkna, iletişimde göndericinin söyleminin arkasında gerçekleş-tirmeye çalıştığı en önemli hedeflerden biridir. Geçmişte ve bugün, belirli bir grupla kısıtlanmayacak şekilde halifeler, sultanlar, üst düzey yöneticiler, onların astları, alimler ve eğitimli insanlar karşılarındaki diğer insanları onlara sunulan tercihler arasından birinin daha üstün olduğuna inandırma konusunda ikna metoduna başvurmuşlardır. Bu yüzden ikna stratejisi çoğu zaman, herhangi bir zarara meydan vermeden kanaatlerin ve bakış açılarının değişmesini sağlaması sayesinde tartışmaların ve çekişmelerin sonlandırılması için bir güç olarak görülmüştür. İkna edici bir söylem bakış açısını nasıl değiştirmektedir? İkna stratejisinin dilsel söylemde temele aldığı farklı araçları ortaya çıkarmayı hedefleyen bu çalışma, söz konusu bu problem üzerine tesis edilmiştir.

Anahtar Kelimeler:

 Strateji, İkna, Araçlar, Söylem, Belağat

تقديم:

لا يسوق المرسل خطابه إلاّ ويبغي من ورائه تحقيق جملة من الأهداف من ضمنها السّعي إلى: التأثير في المخاطب واستمالته لأخذ قرار ما أو اتخاذ موقف معين، أو القيام بعمل ما”([1]) متوسلا لبلوغ ذلك خطة تخاطبيه تعرف باستراتيجية الإقناع، التي تستمد تسميتها من هدف الخطاب.

ويعد الإقناع قوّة تصنع حقيقة اللغة ذلك أنّ: “اللغة باعتبارها نسقا دلاليا لفظيا استراتيجيا في التّواصل الإنساني، تتقوى عن باقي الأنساق الدلالية بكونها تمدُنا بالمعنى…هذا من جهة ومن جهة ثانية فإنّ اللغة اللفظية بطبيعتها تؤثر ووجدت لتؤثر”([2]).

وقد شكّل الإقناع لدى أرسطو وظيفة يقوم على أساسها فن الخطابة، فالخطابة في معتقده هي: “قوّة تتكلف الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة”([3])، ومن المنظور نفسه استخلص أدونيس أن: “البلاغة تهدف إلى أمرين: الوضوح (الارتجال)، والتّأثير (النّفع)”([4]).

وتتخذ استراتيجية الإقناع -لبلوغ الأهداف-أشكالا خطابية تختلف تبعا لاختلاف العلاقة بين المرسل والمرسَل إليه، وتتنوّع بتنوّع الحقول التي يمارس فيها استراتيجيته كالحقل العلمي، أو الاجتماعي، أو السياسي بغية التأثير.

ومنه فإنّ توجيه فعل الإقناع وبناءه يتأسس على جملة من الافتراضات المسبقة بشأن عناصر السّياق خصوصا المرسل إليه.

1-  آليات الإقناع:

يتجسد الإقناع عبر آليات وأدوات اللغة، بوصفها المطية الأساس ويصحبها علامات غير لغوية تعضد لغة الخطاب الإقناعي، وتزيد حجته قوة وتأثيرا نذكر من بينها: 

1-1-  الآليات غير اللغوية:

نذكر من بين الآليات غير اللغوية ما يأتي:

1-1-1-   العلامات السميائية:

تضطلع العلامات السميائية بدور مهم في الإقناع على اعتبار أنّها عناصر حجاجية، سواء تلك التي تسبق التّلفظ، كهيئة المرسل من طول وقصر وحسن وذمامة أو تلك التي تصحب الخطاب وتجسدها حركات المرسل بأعضائه.

 فأما ما سبق منها اللفظ فيندرج عند الجاحظ تحت ما سماه (بدلالة النّصية) وهي: “الحالُ الناطقة بغير اللفظِ والمشيرةُ بغير اليدِ وذلكَ ظاهرٌ في خلقِ السّمواتِ والأرضِ وفي كلّ صامتٍ وناطقٍ، وجامدٍ، ومقيمٍ، وظاعنٍ، وزائدٍ، وناقصٍ … والصامتُ ناطقٌ من جهةِ الدّلالةِ والعجماء معربة من جهة البرهان … ومتى دلّ الشيءُ على معنىً فقد أخبرَ عنه”([5])، ومن ثم تغدو هيئة المرسل وسلوكه (حجة) تعضد دعواه، فلا يدعو داع (المرسل) إلى أمر إلاّ وقد تجسد في هيئته وسلوكه حتى يكون أكثر إقناعا.

 وأمّا ما صاحب منها التلفظ بالخطاب، فقد اندرج لدى الجاحظ تحت دلالة الإشارة: “فأما الإشارة فباليد وبالرأس وبالعين والحاجب… وبالثوب وبالسيف… والإشارة واللفظ، ونعم العون هي له… وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وتغني عن الخطّ، وحسن الإشارة باليد وبالرأس من تمام حسن البيان باللسان”([6]).

يقول الشاعر مبرزا أهمية الإشارة (بالعين) في الإبانة عما تستره الضمائر:

العيْنُ تُبدِي الذِي في عينِ صَاحِبهَا
    

من المَحَبّةِ أو بُغْضٍ إذا كاَنــَــــا
 

العَيْنُ تَنْطِقُ والأفوَاهُ صَــــــــامِتَةٌ
      

حتّى تَرَى منْ ضَمِيرِ القَلْبِ تِبْيَانًا([7])

 

  ومنه تعد الإشارة عضد الكلام فتزيده توكيدا وإيضاحا وتبيانا الأمر الّذي يمكّن المرسل من تحقيق مقصوده، وهو حصول الإقناع لدى المرسل إليه.

1-1-2-    الأدلّة المادية:

وهي ما عرف بالبينة عند (د. طه عبد الرّحمن)؛ ذلك أنّ: “البيّنة تحمل معنى الدّليل الماثل للعيان فيندرج تحتها (الشهادة)، و(الوثيقة)، و(الأثر)، وكل ما يمكن أن يقع تحت الإدراك بواسطة الجوارح … حيث إنّها تكاد تستغني بظهورها عن التأمل البعيد وتنكشف دلالتها فيضطر الخصم إلى الإذعان والتسليم بها أو قل إن شئت أنّ البينة هي الدليل الظاهر العيني”([8])، وتعد البصمات والتسجيل الصوتي في التحقيقات الجنائية وكذا الوثائق أدلة مادية تسهم في دعم دعوى المرسل.

 تلعب الآليات الآنفة الذكر دورا مهما في عملية الإقناع، إلاّ أنّها تظل تابعة للآلية الأساس وهي اللغة الطبيعية، وتجلي دور اللغة في الإقناع عبر الحجاج كأبرز آلياته.

2-   تعريف الحجاج:

يحدد د. أحمد مطلوب حقيقة الحجاج بأنه: “احتجاج المتكلم على خصمه حجة تقطع عناده وتوجب له الاعتراف بما ادعاه المتكلم، وإبطال ما أورده الخصم”([9]).

يرجع أصل استعمال هذا الفن في التراث اللغوي العربي إلى علم الكلام، والذي حاول المتكلمون من خلاله إثبات أصول الدين، وقد شاع الحجاج في كتب البلاغة بمصطلح المذهب الكلامي الذي نسبه ابن المعتز إلى الجاحظ، وسمي كذلك لأنه: “مذهب أهل الكلام في استدلالهم على إبطال حجج خصومهم…”([10]).

أما حديثا فقد طور ديكرو وتلامذته الحجاج ليصبح نظرية متكاملة في اللّغة تهتم بـ:”الوسائل والإمكانات اللغوية التي تمدنا بها اللغات الطبيعية لتحقيق بعض الأهداف والغايات الحجاجية، وهي تختلف عن النّظريات الحجاجية الأخرى ذات التّوجه المنطقي أو الفلسفي أو البلاغي، هذه النّظرية تريد أن تبين أنّ اللغة تحمل بصفة ذاتية وجوهرية وظيفة حجاجية”([11])، ومن هذا المنطلق راح ديكرو يعرّف الحجاج بقوله: “إنّ الحجاج يكون بتقديم المتكلم قولا (ق¹) أو مجموعة من الأقوال يفضي إلى التسليم بقول آخر (ق²) أو مجموعة أقوال أخرى”([12]).

ومنه فإنّ الحجاج يضطلع بدور تخطيطي للعملية التخاطبية حتى تبلغ أثرها من ذهن الآخر، من خلال اختيار المرسل لأدوات وآليات حجاجية معينة، فكل سياق يتطلب خيارات دون غيرها مما يجعل الحجاج في شكله النّهائي: “ترجيح من بين خيارات بواسطة أسلوب هو في ذاته عدول عن إمكانات لغوية إلى أخرى، يتوقع أنّها أكثر نجاعة في مقام معين”([13])، فالحجج تتغير بتغير الظروف المصاحبة لحياة الناس، فما كان منها ناجعا بالأمس ربما لا يكون كذلك اليوم.

وقد عد د. طه عبد الرّحمن الحجاج ركيزة من الركائز التي تنبني عليها حقيقة الخطاب، فلا خطاب دون حجاج ولا مرسل دون أن يكون له وظيفة المدّعي، ولا مرسل إليه دون أن يكون له وظيفة المعترض، وعلى هذا الأساس حُدد لديه الحجاج على أنّه: “كل منطوق موجه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها”([14]).

لأجل ذلك يعد الحجاج مطية القدماء والمحدثين خلفاءً وسلاطين رُؤساء ومرءوسين علماء ومتعلمين – فلا يقتصر على فئة معينة – يعمدون إليه بغية إقناع الآخر بأفضلية خيار ما من بين جملة الخيارات المُتاحةِ لهم.

ولكي يكون للخطاب الإقناعي أثر، لا بُدّ للمرسِل أن يكون على معرفة مسبقةٍ

بخصائص المرسَل إليه النّفسية والفكرية… وموقفه منه، هذه المعرفة التي تسهم في اختيار حجج تنسجم وخصوصية الذات المتلقية، فلا تساق الحجج إلا على أقدار الأفهام.

وبما أنّ استراتيجية الإقناع بالحجاج تسعى إلى التأثير على الآخر استنادا إلى الحجج والبراهين العقلية فإنّها تعتبر بديلا – في كثير من الأحيان – للقوّة في فصل النّزاعات والمناقشات حيث تضمن تغيير وجهات النّظر والقناعات دون ضرر.

كما يعدّ الحجاج مطيّة من تعوزهم القوّة “السّلطة” حيث يكتسبونها من خلال خطاباتهم، فقد تُخوّل قوّة الخطاب ما لا يخوّله خطاب القوّة، كما قد تغيّر قوّة الخطاب ما لا يغيّره خطاب القوّة.

لأجل ذلك أضحى الحجاج أداة مطواعة تتوسّلها مختلف العلوم والمجالات، وبخاصة الدّرس البلاغي، ذلك أنّ: “البلاغة هي قبل كلّ شيءٍ عتاد بنائي وتبليغي يتوسله الخطيب، أو القائل عموما لفرض موضوعه أو رأيه أو قناعته، ولأجل كسب تأييد الآخر أو التّأثير فيه”([15]).

غير أنّ هذا العتاد البلاغي من صور بيانية، وحيل مجازية، ولغوية لا يُحقق منعزلا شرطاَ التّصديق، والتّدليل ما لم يُعضد بأدوات وآليات ترجيح الرأي، وتسويغه عقليا، هذه الأدوات هي التي يوفرها الحجاج، الأمر الذّي دفع ببعضهم إلى القول: إنّ “وراء كلّ حجاج بلاغة والعكس صحيح لأنّ مدار ذلك هو الإغراء والاستغواء قصد الإمتاع والإقناع”([16]).

وفي السّياق نفسه يؤكد د. طه عبد الرّحمن أنّ حقيقة الحجاج قائمة على العلاقة المجازية، فلا حجاج دون مجاز: “وليس المجاز هاهنا بمفهوم الانزياح اللغوي فقط، فالعلاقة التي يقيمها المرسل بين الحجة أو الدعوى والنّتيجة ليست أصلية أو حقيقية، بل هي علاقة يقيمها المرسل في خطابه على النّحو الذي يراه الأنسب والأنجع لتحقيق مراده”([17]).

يتضح مما سبق أنّ العلاقة بين الحجة والدعوى، هي علاقة اعتباطية يستحدثها المرسل بغية تحقيق أهدافه، ومنه فإنّ “الازدواج بين واقع الدّعوى وقيمتها (نتيجتها)، وما واقع الدّعوى إلا ظاهرها أو قل عبارتها، وما قيمتها إلاّ باطنها، أو إشارتها بحيث بكون المجاز هو الاستدلال بعبارة الدّعوى على إشارتها، وبذلك يكون جامعا بين معنيين أحدهما معنى واقعي أو قل “حقيقي ” والثّاني معنى ضمني، أو قل مجازي”([18]).

مما سبق يمكن القول إنّ معيار ضعف الحجاج أو قوّته إنّما هو العلاقة المجازية التي يقيمها المتلفظ بين واقع الدّعوى وقيمتها، على أنّ العلاقة لا تقوم بين هذين الرّكنين إلا عن سابق معرفة بالعالم وثقافات الآخرين وحدود تفكيرهم حتى تكون الحجة نافذة. وذلك في مثل فول النابغة الذبياني معتذرا من سيف الدولة:

أتاني أبيت اللعنة أنّك لمتنــــــي

 

 

وتلك التي أهتم منها وأنصــــبُ

 

حلفت فلم أترك لنفسك ريبـــــــة

 

 

وليس وراء الله للمرء مذهــــبُ

 

لئن كنت قد بلغت عني خيانــــة

 

 

لمبلغك الواشي أغش وأكــــذبُ
 

ولكنني كنت امرأ لي جانـــــب

 

 

من الأرض فيه مستراد ومذهبُ

 

ملوك وإخوان إذا أتيتـــــهـم

 

 

أُحكم في أموالهـــــم وأُقـــــرّبُ

 

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم

 

 

فلم ترهم في شكر ذلك أذنبــــوا([19])

 

نلاحظ أنّ الشاعر يحتج لنفسه حجة منطقية، تستند إلى معرفة المسبقة بكيفية تعامل (النعمان) مع أولئك الذين يبادرونه بالمحبة والمدح، مبينا أنه لم ينحرف عن ولائه لمجرد مدحه (آل جفنة)، وإنّما مدحهم عرفانا لهم بالجميل لأنّهم أكرموه تماما كما يفعل هو لمن يكرمهم فيمدحوه، فقال: أنت أحسنت إلى قوم اصطنعتهم فمدحوك وأنا أيضا مدحت قوما أحسنوا إلىّ فكما أنّ مدح أولئك لك لا يعد ذنبا فكذلك مدحي لهم لا يعد ذنبا.

 

3-   أصناف الحجاج:

يُقَسَّـــمُ الحجاج بالنّظر إلى استحضار المرسل إليه من عدمه لحظة بناء الخطاب الإقناعي إلى صنفين، هما: الحجاج التّوجيهي والحجاج التّقويمي.

3-1- الحجــــاج التّوجيهــي:

يقصد بالحجاج التّوجيهي: “إقامة الدّليل على الدّعوى بالبناء على فعل التّوجيه الذي يختصّ به المُستَدِل لحجته إلى غيره، فقد ينشغل المُستَدلُ بأقواله من حيث إلقاؤه لها ولا ينشغل بنفس المقدار بتلقي المخاطب لها وردّ فعله عليها، فتجده يُولي أقصى عنايته إلى قُصوده وأفعاله المصاحبة لأقواله الخاصة، غير أنّ قصر اهتمامه على هذه القصود والأفعال الذاتية يفضي به إلى تناسي الجانب العلاقي من الاستدلال، هذا الجانب الذي يصله بالمخاطب ويجعل هذا الأخير متمتعا بحقّ الاعتراض”([20]).

  ففي هذا الصنف يبني المرسل حجّته بعيدا عن استحضار المرسل إليه لأجل توقع اعتراضاته ومنحه حقّ النّقد، حيث يكتفي بمجرد إيصال الحجج إله الأمر الّذي يجعل من الحجاج التّوجيهي أقل من الحجاج التّقويمي.

  3-2- الحجــــــــاج التّقويمــي:

المقصود بالحجاج التّقويمي “إثبات الدّعوى بالاستناد إلى قدرة المستدل على أن يُجرِد من نفسه ذاتا ثانية ينزلها منزلة المعترض على دعواه فهاهنا لا يكتفي المستدل بالنظر في فعل إلقاء الحجة إلى المخاطب واقفا عند حدود ما يوجب عليه من ضوابط وما يقتضيه من شرائط، بل يتعدى ذلك إلى النّظر في فعل المتلقي باعتباره هو نفسه أول متلق ّ لما يُلقي، فيبني أدلته أيضا على مقتضى ما يتعيّن على المستدلّ له أن يقوم به، مستبقا استفساراته واعتراضاته ومستحضرا مختلف الأجوبة عليها ومستكشفا إمكانات تقبّلها واقتناع المخاطب بها. وهكذا، فإن المستدلّ يتعاطى لتقويم دليله بإقامة حوار حقيقي بينه وبين نفسه، مراعيا فيه كل مستلزماته التّخاطبية من قيود تواصلية وحدود تعاملية، حتى كأنّه عين المستدل له في الاعتراض على نفسه”([21]).

وهكذا فإنّ المرسل من هذا المنظور يقوّم حجاجه وذلك بخلق ذات متلقية (مرسل إليه متخَيّل) يفترض المرسل وجوده تحسّباً لأي اعتراضات قد يواجهه بها، وذلك استنادا إلى معرفته المسبقة به وبعناصر السيّاق.

4-  تقنيـــــــــات الحجـــــــاج:

قد يجنح المرسل في بناء خطابه الحجاجي إلى المزاوجة بين ضربي التصريح، والتّلميح فلا يقتصر على شكل دون آخر، وذلك بحسب ما يفرضه السياق التّواصلي، متوسلا لذلك آليات وأدوات لغوية لا تقتصر على مجال دون آخر، ذلك أنها تتسم بالمرونة التي تجعل منها أداة مطواعة تنصاع لطريقة استعمال المرسل لها. حيث تقوم هذه الأدوات والآليات بدور الهيكل المنظم للعلاقات بين الحجج والنتائج، ويمكن تقسيم التقنيات الحجاجية إلى: أدوات اللغوية الصّرفة، وآليات بلاغية، وآليات شبه منطقية.

4-1- الأدوات اللغوية الصرفة:

فأمّا الأدوات اللغوية الصرفة فنذكر من بينها:

4-1-1- ألفــــاظ التّعليــــــــــل: تعد ألفاظ التّعليل من الأدوات التي يعمد إليها المرسل لتركيب خطابه الحجاجي وتنظيم حججه، نذكر منها:

أ-المفعول لأجله وكلمة السبب ولأنّ، بحيث يستعملها المرسل تبريرا وتعليلا لأفعاله، فمهما كان ورود المفعول لأجله في الخطاب فإنّما يرد للتّعليل ذلك أنّه: “علّة الإقدام على الفعل، يكون سببا كقوله: واغفرْ عوراءَ الكَريمِ ادّخارَه، وسببا باعثا وليس غاية يقصد قصدها نحو قوله: يَركبُ كلَّ عَاقِر جُمهورٍ مخاَفَةَ وزَعل المحبُورِ والهَوْلَ من تهوُلِ… فالخوف والهول كل منها سبب باعث على ركوب الجمهور لا سبب غائي”([22]).

ب-حروف التّعليل مثل كي، اللام، في، من و”كلها ليست موضوعة للتعليل وإنّما تفهم من سياق الكلام”([23]).

4-1-2- الــــوصــف: يشمل الوصف الصفة واسم المفعول، واسم الفاعل بحيث تضطلع الأدوات إضافة إلى دورها المعجمي بدور المُقوّم والمصنف الحجاجي الذي يبتغي المرسل من خلاله توجيه المرسل إليه إلى ما يزيد توضيح دعواه وتقويتها ذلك أنّ الوصف: “من مظاهر اختيار المعطيات وجعلها ملائمة للسّياق فالصفات تنهض بدور حجاجي يتمثل في كون الصّفات إذْ نختارها تجلو وجهة نظرنا وموقفنا من الموضوع”([24])، بمعنى أنّ الصفة حجة تدعم دعوى المُحْتَج فلو سَأل المُرسِل المرسَلَ إليه قائلا: لما اخترت فلانا صاحبا؟

يجيب المرسَل إليه قائلا: لأنّه صادق صدوق.

فاتصاف فلان بالصدق حجة كافية ومقنعة تعضد اختيار المرسَل إليه لصاحبه دون غيره.

4-1-3- الأفعـــــــــال الكـــلامـيـة: يذهب كل من “فان إيميرن وجروتندورست” إلى أنّ الأفعال الكلامية تسهم بأدوار مختلفة في الحجاج إذ يقوم كل منها بدور محدد في الحجاج بين طرفي الخطاب، وتترتب الأفعال حسب مقدار الاستعمال، “فالمرسل يستعمل أغلب أصناف الفعل التقريري، إنّ لم يكن كلها ليعبر عن وجهة نظره، وليحدد موقفه من نقطة الخلاف، كما يستعملها لمواصلة حجاجه من خلال التأكيد أو الادعاء كما يعبر بها عن دعواه وكذلك لتأسيس النّتيجة”([25]).

 ويقف هدف الخطاب فيصلا لوصف الخطاب بأنّه خطاب حجاجي أولا، فالهدف من الخطاب الحجاجي هو إقناع المرسل إليه وإزالة شكوكه في وجهة النّظر موضع الخلاف، وقد تتبع كل من إيميرن وجروتندورست دور كلّ صنف من أصناف الأفعال الكلامية التي وضعها سيرل حيث لاحظا ما يلي([26]):

-تستعمل الأفعال الإلزامية للتعبير عن قبول وجهة النّظر، أو الرّغبة في الحجاج من عدمه وفي تدعيم موقف المرسل الّذي اتّخذه للدّفاع عن موقفه.

– تستعمل الأفعال التّوجيهية بجميع أصنافها وذلك راجع لطبيعتها التي تناسب ما تقتضيه طبيعة النّقاش مثل التّحدي والدّفاع عن وجهة النّظر أو طلب الحجاج، غير أنّ سياق الحجاج يفرض على المرسل عدم استعمال بعض الأنواع منها، مثل الأمر وأفعال التّحريم التي قد تؤدي أحيانا إلى الحيلولة دون إتمام النّقاش.

– يعد الاستفهام من أنجع الأفعال الكلامية المستعملة في الحجاج، إذ إنّ طرح السّؤال يمكن أن يضخم الاختلاف حول موضوع ما، إذا كان المخاطب لا يشاطر المتكلم الإقرار بجواب ما، كما يمكن أن يلطف السّؤال ما بين الطرفين من اختلاف إذا كان المخاطب يميل إلى الإقرار بجوابٍ غير جواب المتكلم.

 على أنّ الاستفهام فعل حجاجي بالقصد المضمر فيه وفق مقتضيات السّياق، ما لم يكن سؤالا عن مجهول؛ إذ تساق لتقرير الحقائق وتقوية الحجج، فهي “حجج باعتبار المرسل لا باعتبار الصياغة والمعنى الحرفي”([27])، وذلك في مثل قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)([28]).

أي ألم يبلغك يا محمد وتعلم علمًا يقينًا ماذا صنع الله العظيم الكبير، بأصحاب الفيل حين أهلكهم بأضعف جنوده، وهي الطير التي ليست من عادتها أن تقتل[29] وفي ذلك حجة دامغة على قدرة الله وكرامته للكعبة، فلم تكن الأسئلة هاهنا استفهاما عن مجهول، إذ لا يجهل المرسل شيئًا عن هذه الحقائق، ولا تزيد معرفة المرسل إليه على ما يعرفه المرسل ولذا فهي حجج باعتبار قصد المرسل.

 وما قيل في الاستفهام من أنّه حجة بالقصد التّلميحي يقال أيضا عن النّفي، ويُقصد به تقرير الحجج بالتلميح، ويتضح ذلك من خلال المثال الآتي: “لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص من مصر قال له لقد سرت سير عاشق، قال عمرو: إنّي والله ما تأبطني الإماء ولا حملتني البغايا في عبّارات المآلي، قال له عمر والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه…”([30]).

  إذ ينفي عمرو بن العاص تهمة (العشق) عن نفسه، فكل قول منفي هو حجة تلميحية (ضمنية) لإقناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ليس بعاشق.

 4-1-4- تحصيل الحاصل: لتحصيل الحاصل صور خطابية عديدة تسهم بدلالتها في تقوية حجة المرسل، -بالرغم من أنّه قد يعد حشوا لا طائل-منه فمن تلك الصور أن يعدد المرسل للمرسل إليه سمات ملازمة للدّال وذلك في مثل قول زهير بن أبي سُلمى:

وَمَا الحَرْبُ إلاَّ ما عَلِمْتُمُ وذُقْتُــــــــــــمُ

وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَـــــمِ ([31])

إذ يسوق المرسل للمرسل إليه سيمات عديدة للحرب تعتبر حجة لتقوية دعواه بأنّ الحرب لا خير فيها إذ يكافئ قول زهير القول: (الحرب هي الحرب)، ومن ضروب تحصيل الحاصل التلفظ بلفظ واحد ينوب عن أكثر من ذلك في قول المرسل: هذا وطنك؟ وذلك إذا تلفظ بها المرسل لمرسلٍ إليه قعد دون القيام بواجبه نحو وطنه.

ولا يقتصر الحجاج بتحصيل الحاصل على التلفظ بلفظ مفرد فحسب، بل يتعدى ذلك إلى تكرير اللفظ أو العبارة بالرغم من أنّه يعد حشوا من وجهة النّظر الدلالية إلاّ أنّه و”بمقتضى معايير الحجاج والتّداول، يتبيّن أنّ لتوسيع الجملة … مبررات كافية، ذلك أنّ الجملة تفتح اتجاهات خطابية حجاجية تتلاءم واستئنافا يزيد أو ينقص من عدد الأقسام، لكن التقييد يقلص هذه الإمكانات الاتجاهية”([32]).

 فقد يُذكر الشيء مرتين أو أكثر وذلك إما للتأكيد نحو قوله تعالى: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ(5)([33])، وإمّا للتنبيه إلى ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ([34])؛ حيث كرر (يا قوم) تنبيها لهم إلى ما يريد أن يردعهم عنه”([35]).             

4-2- الآليــــات البــلاغــيـة:

تتجسّد استراتيجية الإقناع إلى جانب الأدوات اللّغوية عبر آليات بلاغية نذكر من بينها ما يأتي:

 4-2-1- الاستـعـــــارة: تصنّف الاستعارة ضمن أدوات السلم الحجاجي الأبلغ تأثيرا من الحقيقة ذلك أنّ: “قوة الحجاج في المفردات تبدو في الاستعمالات الاستعارية أقوى مما نحسه عند استخدامنا لنفس المفردات بالمعنى الحقيقي، إنّ للاستعارات ذات الدور الحجاجي خاصية ثابتة فالسمات الدلالية المحتفظ بها في عملية التّخيير الدّلالي الذي تقوم عليه هذه الاستعارة هي سيمات قيمية”([36])؛ حيث تبرز الاستعارة طواعية العلاقات اللغوية التي تنصاع لأغراض المرسل وفقا لمقتضيات السياق فلا تقف عند حدود تلك العلاقات المنطقية “الحقيقية” الرابطة بين الدّال والمدلول وإنّما تتجاوزها إلى استعمال اللفظ لغير ما وضع له بغية: “تثبيت المعنى بالدليل فيتقرر في الأذهان ويستقٍرُّ في الوجدان وذلك لأنَّ الاستعارة من المجار اللغوي والمجاز كدعوى الشّيء بالبَيّنَةِ والبرْهان كما لو قيل: رأيت غزالاً، فالمراد امرأة رشيقة خفيفة فقد أثبت للمرأة الجمال بالدّليل، وذلك لأنّها جُعِلَتْ غزالاً وبما أنّ الغزال متوفر فيها الرّشاقة، والخفّة فتكون المرأة مثلها، وهنا وجبَ الجمال للمرأة، والغزال دليل على هذا الجمال وما يُثْبَتُ بالدليل أقوى وآكدُ من غيره”([37]).

 ومنه تغدو الاستعارة ذات طبيعة إيضاحية تزيد الأمر تبيانًا، وتكشف الحقيقة سافرة وإنّك لترى من خلالها: “الجماد حيّاً ناطقاً والأعجم فصيحاً والأجسامَ مبنيّةً والمعاني الخفيةِ باديةً جليةً … إن شِئتَ أرتْكَ المعاني الطبيعية التي هي من حنايا العقل كأنّهَا جُسِمتْ حتّى رأتها العيون، وإن شِئْتَ لطفت الأوصاف الجسمانيةَ حتىّ تعُودَ روحانيّةً لا تَنالُها الظّنون”([38]).

 الأمر الذي يجعلُ دعوى المُرسِلِ أثبت وأقوى وأدحض لأيّ اعتراض من المرسل إليه.

 وقد انبنت النّظرية الاستعارية في الحجاج لدى طه عبد الرحمان على عدد من الافتراضات هي([39]):

 – إنّ القول الاستعاري قول حواري وحواريته صفة دائمة، إذ تتضح حوارية الاستعارة في تعدد ذوات المرسل عند اختياره للاستعارة في حجاجه دون غيرها، انطلاقا من النظر في المعنى الحقيقي في حال إظهاره وتأويله، وفي المعنى المجازي فيحرص حال إظهاره وتبليغه وذلك بالتقلب بين هذه الأدوار بذوات أربع.

– إنّ القول الاستعاري قول حجاجي، وحجاجيته من الصنف التّفاعلي نخصه باسم “التّحاج ” لأن التسليم بها فيه نظر، إذ يكيّفها المرسل وفق إرادته ويختار من الألفاظ المرادة دون قيد فيكمن حسن حجاجيته في تدخل آليتي الادعاء والاعتراض، وذلك عن طريق الرضا بشروط كل منهما، وبلورتها من قبل تلك الذوات الأربع، فالوظيفة الحجاجية للذات المظهرة هو ادعاء وجود المعنى الحقيقي للخطاب أي المطابقة بين المستعار منه والمستعار له.

بينما تكمن الوظيفة الحجاجية للذات المسئولة في الاعتراض على ذلك بإنكار المطابقة، وتكمن فعالية الاستعارة في التناسب مع ما يقتضيه السياق إذ تمثل الاستعارة أبلغ وأقوى الآليات اللّغوية رغم اكتناف السّياق للكثير من العناصر.

بينما يظهر التوجه العملي للاستعارة في ارتكازها على المستعار منه إذ تكون الاستعارة بذلك أدعى من الحقيقة لتحريك همة المرسل إليه إلى الإقناع ([40]).

4-2-2- التمثيل: تعرّض عبد القاهر الجرجاني في أسراره للحديث عن التّمثيل حين تحدّث عن الفروق بين التشبيه والتمثيل لينتهي إلى أنّ التشبيه أعم من التمثيل والتمثيل أخص من التشبيه، “فكل تمثيل عنده تشبيه وليس كل تشبيه تمثيلاً”([41]).

 ويستخدم المرسِل التمثيل في إثبات حجته وتقريرها في الأذهان ذلك أنّ “مما اتفق العقلاء عليه أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبّهة… فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم… وإن كان حجاجا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر”([42])، هاهنا تكمن قوّة الحجاج بالتّمثيل؛ إذ يعمد إليه المرسل لبيان الحال وذلك في مثل قول المتنبي يُرثي والدة سيف الدّولة:

ولو كانَ النّساءُ كمنْ فقَدْنـــــــاَ

 

لَفَضّلتُ النساء على الرِّجالِ

ومَا التّأنِيثُ لاسمِ الشّمس عَيْبٌ
   

ولاَ التّذكِيرُ فَخْرٌ للرِّجــــــالِ ([43])

لقد احتجّ الشّاعر لتفضيل المرأة على الرّجُلِ بحجة لم يُسبَق إليها، فلو كانتِ النّساءُ كمثلِ والدة سيفِ الدّولة في كمال الصّفات، لفُضلْنَ على الرّجال لأنّ الشّيء لم يكن شريفا أو غيرَ شَريف لتأنيث اسمه أو تذكيره، بل يَثبُتُ الشّرفُ للسّماتِ من حيثُ أنفُسها و أوصافها، لا من حيث أسماؤها، فربَّ تأنيث يقصُرُ التّذكيرُ عنه ولا يبلغ مبلغه، والمثل في ذلك الشّمس والقَمرُ، فالشّمس مؤنّثةٌ والفضلُ لها، والقمر مذكّرٌ وهو لا يُعادلُ بها، فالشّمسُ أشمل نورا وأكثر ظهورا وهي مؤنّثة، والقمر أقلّ نورا وأقلّ ظهورا ليبلغ المرسل من خلال التّمثيل ألباب مستمعيه فالحجة هاهنا أقوى وأظهر حيث لم تدع منفذا للاعتراض على قوله.

 4-2-3-تقسيم الكلّ إلى أجزاء: يعد التّقسيم من الأساليب العريقة في التّراث اللغوي العربي، فقد ذكر ابن قيّم الجوزية والزّركَشي أنّ المقصود من التّقسيم إنّما هو: “استيفاء المتكلّم أقسام الشّيء بحيث لا يغادر شيئا وهو آلة الحصر ومظنّة الإحاطة بالشّيء”([44])، وذلك في مثل قول أبي إسحاق الفزاري: “كان ابراهيم يطيل السّكوت فإذا تكلّمَ انبسط فقلتُ له ذات يوم لو تكلمت فقال الكلام على أربعة وجوه، فمنه كلام ترجو منفعته وتخشى عِقابَه، فأفَضِّل منه السّلامة، ومنه كلام ترجو منفعَتهُ ولا تَخْشَى عِقَابه، فأقلّ ما لك في تَركِه خفةَ المؤُنةَ على بَدَنِكَ ولِسَانِكَ، ومنهُ كلامٌ لا تَرجُو منْفَعَتَهُ وتخْشَى عِقَابَهُ وهذا هو الدّاءُ العُضال، ومن الكلامِ ما ترْجو منفَعَتَه وتأمن عاقبته فهذا الّذي يجبُ عليْكَ نشره، قال فإذا هو أقسط ثلاثة أرباع الكلام”([45]).

 لقد قسّم القائل الكلام إلى أربعة أقسام ثمّ أوضح كل منها موردا أحكامها من حيث وجوب الترك أو الالتزام، ليكون بذلك خطابه أقوى حجة وأثبت في العقول بحيث لم يدع حجة للخصم للاعتراض.

4-3- الآليات شبه المنطقية:

تتوطد العلاقة المجازية بين الحجة والدعوة لتصبح علاقة شبه منطقية إلى حد ما متجسدة – بطبيعة الحال-عبر أدوات لغوية، وتتمثل حقيقة فعل الحجاج في تدافع الحجج وترتيبها حسب قوّتها فلا يثبت منها إلا الحجج القوية، فترتيب الحجج بحسب قوتها هو ما يسمى بالسلم الحجاجي.

4-3-1- السّــــلم الحجــــــاجي: حدّ السلم الحجاجي أنّه: “نظام وتراتبية الحجج (حجج قوية، وحجج ضعيفة) أو (حجج عليا وحجج سفلى) بالنسبة لنتيجة معينة طبيعيا … وعندما تتضمن فئة من الحجج علاقة بين مراتب الحجج؛ إذ ذاك تسمى هذه العلاقة (سلما حجاجيا)“([46])، فيما عرّفه د. طه عبد الرحمان بقوله إنه “عبارة عن مجموعة غير فارغة من الأقوال مزودة بعلاقة ترتيبية وموفية بالشرطين التاليين:

 أ: كلّ قول يقع في مرتبة ما من السلّم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القول الموجود في الطرف الأعلى جميع الأقوال الّتي دونه.

 ب: كلّ قول كان في السلّم دليلا على مدلول معيّن كان يعلوه مرتبة دليلا أقوى عليه وله ثلاثة قوانين: قانون الخفض، قانون تبديل السلم، قانون القلب”([47]).

ويصدق هذا في الإثبات، مثل: زيد أنبل الناس خلقا، فقد أكرم أخاه، وأكرم صديقه، وأكرم خصمه إذ جاءه مستجيرا.

 زيد من أنبل الناس خلقا

                                                         

                                             أكرم زيد عدوّه                

                                             أكرمك زيد صديقه

                                             أكرم زيد أخاه

 

فهذه كلها حجج، يؤكد كل منها نبل أخلاق زيد، حيث رتبها المرسل تبعا لدرجة قوتها على المدلول، فبدأ بأقلها دلالة، إذ يعد إكرامه لأخيه واجبا لا بد منه، ويتعالى ترتيب الحجج ليضيف كل منها مبررا (حجة) أقوى لوصف زيد بالطيبة، لتكون بذلك الحجة الأعلى هي الحجة الأقوى، فإكرامه لخصمه أقوى دلالة على نبل أخلاقه من إكرامه لزملائه، وإكرامه لزملائه أقوى دلالة على نبل أخلاقه مع أخيه وهكذا، وبهذا فكل دليل يستلزم منطقيا ما تحته من أدلة.

 وإجمالا هناك أدوات كثيرة، وآليات متعددة تسهم في بناء الخطاب حجاجيا بما يتناسب مع السياق، فيختار منها المرسل ما يفي بقصده ويحقق هدفه الإقناعي.

خاتمة:

ختاما يمكننا القول إن الإقناع كان وما يزال أبرز الأهداف التي يسعى المرسل إلى تحقيقها من وراء خطابه متوسلا لذلك حججا قد لا تنفذ مجردة من بلاغة تعضدها هذا ما أكده نيتشه بقوله “كلما كانت الحقيقة التي تريد تعليمها أكثر تجريدا وجب عليك أن تزينها لإغواء الحواس([48])، ليعد بذلك العتاد البلاغي من صور بيانية و محسنات بديعة أهم الركائز التي تنبني عليها حقيقة الحجاج إذ يمكن القول “إنّ الحجاج يبني و يصوغ الرأي الصائب و الصادق أما الأسلوب البلاغي فهو يعرض هذا الحجاج و موضوعه في صورة وتقنيات تقتضيها جمالية الإيصال و التلقي([49]).

 

 

 

المصادر والمراجع

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، أحمد مطلوب، مكتبة لبنان ناشرون ط2، بيروت، لبنان،1996.

البنية الحجاجية للخطاب القرآني سورة الأعلى نموذجا، أبو بكر العزاوي، المشكاة، العدد 19.  

عيون الأخبار، ابن قتيبة، ضبط يوسف علي الطويل، منشورات دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1998.

البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، ط2، بيروت، 1998.

أسرار البلاغة، الجرجاني، راجعه أ عرفان مطرجي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1985.

الحجاج والاستدلال الحجاجي، حبيب أعراب، عالم الفكر، مج30، الكويت، 2001.

الموسوعة الثقافية العامة (علوم البلاغة)، راجي الأسمر، إشراف إميل يعقوب، دار الجيل، بيروت.

اللسان والميزان، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي ط 1، دار البيضاء، 1998.

البيان في ضوء الأساليب العربية، عائشة فريد حسين، دار قباء للطباعة، 2000.

خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق إميل بديع يعقوب، منشورات الكتب العلمية، لبنان.

الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية عبد الله صولة، دار الفاربي ط2، بيروت،2007.

استراتيجيات الخطاب، مقاربة لغوية تداولية عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، بيروت، 2004.

المعجم المفصل في النّحو العربي، عزيزة فوال بابتي، دار الكتب العلمية، ط1، بيروت، 1992.

جمهرة أشعار العرب، جمهرة أشعار العرب، القرشي، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1984.

صفوة التفاسير، محمد بن علي الصابوني، دار القرآن الكريم، ط 4، بيروت، 1981.

مفهوم الحجاج عند بريلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، محمد سالم ولد محمد الأمين، عالم الفكر، الكويت، مج 28، العدد 3، مارس 2000.

 

Kaynakça / References

Mu2jam Almustala7at Albalaghiah wa tataworuha, ‘ahmad matlub , maktabat lubnan nashiron ta/2, bayrut , 1996.

Albinyah Alhijajiah Lilkhitab Alquranii surat al’a2laa namudhajan abu bakr aleazaawi , almushkaat , aleadad 19.

2uyun Al’akhbar – Abn qutaybat , dabt yusuf ealiin altawil , manshurat dar alkutub aleilmiat ta/1, bayrut ,lubnan , 1998 ,ju/2

Albayan wa Altabyine, Aljahiz, tahqiq abd alsalam muhamad haroun, dar aljil t, bayrut lubnan, 1998.

Asrar Albalaghah , Aljorjani , raja2aho a eirfan matraji, moasasat alkotob althaqafiah , dt.

Alhijaaj wa Alistidlal alhijaji , habib ‘a2rab , ealam alfikr , alkuayt , 2001 , muj/30.

Almawsu2ah Althaqafiah al2ama (2ulum albalagha ) , raji al’asmar  ishraf imil ya2qub , dar aljil bayrut lubnan , dat .

Allisan wa Almizan , taha Abd Alrahman , Almarkaz Althaqafi al2arabi t/ 1,dar albayda’, 1998.

Albayan fi Dawi’ al’asalib al2arabiah , aicha farid husayn , dar quba’ liltab2e alkahira t/2000.

Khizanat Al’adab wa lubo Iubabi lisan al2arab, abd alqadir ibn 2omar albaghdadi tahqiq imil badie yaeqob, manshurat alkutub aleilmiah ,dt.

Alhijaaj Fi Alquran min khilal ‘ahami khasayisihi al’uslubiah abd allah sawlah , dar alfarbii t/2,bayrut , lubnan -2007.

Istratijiaat Alkhitab ,Muqarabah lughawiah tadawuliah abd alhadi bin zafir alshahrii ,dar alkitaab aljadid almutahidah,ta/1, bayrut lubnan ,2004.

Almu2jam Almufasal fi Alnahw al2arabii , azizah fawal babti , dar alkutub aleilmiah , bayrut lubnan , t / 1992.

Jamharat ‘Ash2ar Al2arab, alqurashiu ,dar bayrut liltibaeat w alnashr ,biruta,dat , 1984.

Safwat Altafasir , Muhamad ibn ali alsaabunii , dar alquran alkarim. ta/ 4, bayrut , 1981.

Mafhum Alhijaaj 2ind brilman wa tatawuroho fi albalaghah almu2asirah , mohamad salim wald muhamad al’amin , ealam alfikr , alkuayt , moj / 28 , al2adad 3 , maris 2000.

 

 


([1]) الحجاج والاستدلال الحجاجي:30/ 122.

([2]) الحجاج والاستدلال الحجاجي: 106.

([3]) الحجاج والاستدلال الحجاجي: 107.

([4]) استراتيجيات الخطاب: 445.

([5]) البيان والتبيين:1/ 55.

([6]) البيان والتبيين:1/ 56.

([7]) البيان والتبيين:1/ 56.

([8]) اللسان والميزان: 136.

([9]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 35.

([10]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 35.

([11]) البنية الحجاجية للخطاب القرآني سورة الأعلى نموذجا: 123.

([12]) الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: 163.

([13]) مفهوم الحجاج عند بريلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة: 72.

([14]) اللسان والميزان: 226.

([15]) الحجاج والاستدلال الحجاجي: 109.

([16]) الحجاج والاستدلال الحجاجي: 110.

([17]) استراتيجيات الخطاب: 460.

 ([18]) اللسان والميزان: 231.

 ([19]) الموسوعة الثقافية العامة (علوم البلاغة): 153.

 ([20]) اللسان والميزان: 226.

 ([21]) اللسان والميزان:228.

 ([22]) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب: 111.

([23]) المعجم المفصل في النّحو العربي: 466.

([24]) استراتيجيات الخطاب: 486.

([25]) استراتيجيات الخطاب: 482.

([26]) استراتيجيات الخطاب: 483.

([27]) استراتيجيات الخطاب: 485.

([28]) سورة الفيل 105/1-2.

([29]) صفوة التفاسير، 4/360.

([30]) البيان والتبيين، 2/ 352.

([31]) جمهرة أشعار العرب: 108.

([32]) اللسان والميزان: 291.

([33]) سورة النبأ: 78/4-5.

([34]) سورة غافر40/ 38-39.

([35]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 83-84.

([36]) اللسان والميزان: 495.

([37]) البيان في ضوء الأساليب العربية: 187.

([38]) أسرار البلاغة: 47.

([39]) اللسان والميزان: 229-235.

([40]) اللسان والميزان: 310.

([41]) أسرار البلاغة: 165.

([42]) أسرار البلاغة: 100.

([43]) البيان في ضوء الأساليب العربية: 81.

([44]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها: 233.

([45]) عيون الأخبار: 196.

 ([46]) الحجاج والاستدلال الحجاجي: 105.

 ([47]) اللسان والميزان: 277.

([48]) الحجاج والاستدلال الحجاجي:123.

([49]) الحجاج والاستدلال الحجاجي:110.